سبب نزول سورة التوبة

سبب نزول سورة التوبة

تُعد سورة التوبة من السور المدنية التي نزلت في أواخر العهد النبوي، وتحديدًا بعد غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة، وتتميّز بأنها السورة الوحيدة في القرآن الكريم التي لا تبدأ ببسملة، وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الظاهرة، فذهب بعضهم إلى أن ذلك لشدّة لهج السورة، وصرامة نبرتها، واحتوائها على إنذار ووعيد شديدين للمنافقين والمشركين، وهو ما لا يتناسب مع افتتاحها بصيغة الرحمة. كما أنّ سورة التوبة تُسمّى أيضًا بسورة “براءة” لأنها بدأت بـ”براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين”، وجاءت هذه الآيات ضمن إعلانٍ رسمي بإنهاء العهود التي كانت قائمة مع بعض قبائل المشركين، مما شكل تحولًا مهمًا في طبيعة العلاقة بين الدولة الإسلامية في المدينة والقبائل المحيطة بها.

السياق التاريخي لنزول سورة التوبة

نزلت سورة التوبة في لحظة حرجة من لحظات بناء الدولة الإسلامية، حين أصبحت المدينة المنورة مركزًا للقوة والنفوذ في شبه الجزيرة العربية، وبعد أن توسّعت رقعة الدولة الإسلامية، وانكشفت نوايا المنافقين وتخاذلهم في أكثر من موقف، خصوصًا خلال غزوة تبوك. كانت الغزوة اختبارًا قاسيًا للمؤمنين، إذ خرج النبي محمد صلى الله عليه وسلم في ظروف مناخية قاسية، وفي وقت اشتدت فيه حرارة الصيف، وكان العدو المحتمل –الروم– من أقوى جيوش العالم آنذاك. وقد تميزت هذه المرحلة بكشف وجوه النفاق والمكر، وتكشّف الصفوف الحقيقية لأهل الإيمان.

ومن هنا جاءت سورة التوبة كمحطة تأديبية وتحذيرية، وكأداة تصحيحية لمسيرة الدولة الإسلامية، ففضحت المنافقين وعرّت مخططاتهم، وبينت مواقفهم، كما حددت ملامح السياسة الشرعية في التعامل مع المشركين والمنافقين، ووضعت أُسس العلاقة الجديدة بين الدولة الإسلامية وبقية القوى في الجزيرة العربية.

أسباب النزول التفصيلية لآيات سورة التوبة

1. براءة من الله ورسوله (الآية 1):

جاءت هذه الآية في سياق إعلان نهاية العهود التي كانت قائمة بين النبي وبعض القبائل المشركة، والتي لم تلتزم بالعهد، فأنزل الله هذه الآية ليُعلن براءته من هؤلاء، كما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم براءته، فكانت بداية الآيات واضحة في لهجتها الحاسمة، دون مقدمة رقيقة أو رحيمة، لأن الأمر يتعلق بإنهاء حالة قائمة من العلاقات التي لم تعد مجدية بسبب نقض العهد من الطرف الآخر.

2. “عاهدتم من المشركين” (الآية 1):

نزلت هذه الآية فيمن كان بينه وبين النبي عهد ولم يلتزمه، مثل بني بكر وخزاعة ومن تحالف مع قريش، وقد خانوا العهد وقتلوا بعض من تحالف مع المسلمين. وهنا جاء الأمر الإلهي بإلغاء هذه المعاهدات وإعطاء المشركين مهلة أربعة أشهر للتنقل في الأرض، ثم تنتهي هذه المدة، ليُصبحوا تحت طائلة السيف ما لم يُسلموا.

3. “فسيحوا في الأرض أربعة أشهر” (الآية 2):

نزلت لتحديد المهلة الزمنية التي يُمنحها المشركون بعد إعلان البراءة، وهي أربعة أشهر يستطيعون خلالها أن يسيحوا في الأرض بأمان، ولكن بعد انقضائها، فإنهم سيكونون في حالة عداء صريح مع الدولة الإسلامية.

4. “إن الله بريء من المشركين ورسوله” (الآية 3):

ورد في تفسير هذه الآية أن أبا بكر رضي الله عنه كان قد أرسل في حجة الوداع، ومعه بعض الصحابة، لإبلاغ الناس بالبراءة، ثم أمر النبي علي بن أبي طالب أن يلحق به ليعلن البراءة بنفسه، لأنه لا يُبلّغ عن النبي إلا رجل من أهل بيته. وهكذا أعلن علي بن أبي طالب البراءة يوم النحر أمام جموع الحجاج، مؤكدًا انتهاء العهود القائمة مع المشركين، ودعاهم إلى الإسلام.

5. “إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئًا” (الآية 4):

نزلت هذه الآية استثناءً من البراءة، وأمرًا بالوفاء بالعهد مع أولئك الذين لم يغدروا أو يخونوا، وأوفوا بعهدهم، ولم يساندوا أحدًا على قتال المسلمين. فكان هذا إحقاقًا للعدالة وعدم التعميم.

6. “قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر” (الآية 29):

نزلت هذه الآية في سياق الحث على قتال أهل الكتاب الذين اعتدوا على المسلمين، وكان ذلك ضمن سياق غزوة تبوك، إذ كانت الإمبراطورية البيزنطية تستعد لشن هجوم على الدولة الإسلامية. وجاء هذا التوجيه لتأكيد أن الجهاد لا يقتصر على المشركين فقط، بل يمتد إلى من يقاتلون الإسلام من أهل الكتاب أيضًا.

7. “ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني” (الآية 49):

هذه الآية نزلت في المنافق الجد بن قيس، الذي طلب من النبي أن يعفيه من الخروج إلى غزوة تبوك بحجة أنه يُفتن بالنساء الروميات، ففضحه الله تعالى وبيّن زيف حجته ونفاقه.

8. “لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار” (الآية 117):

جاءت هذه الآية بعد غزوة تبوك لتؤكد قبول الله لتوبة الذين تابوا بعد أن تخلفوا عن الخروج، كما أنها جاءت تكريمًا للمؤمنين الذين صبروا على المشقة وخرجوا مع النبي رغم قساوة الظروف.

9. “وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا” (الآية 118):

نزلت هذه الآية في الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من غير نفاق، وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. وقد تاب الله عليهم بعد أن ضاقت بهم الأرض بما رحبت، فكانت توبتهم مشهودة ومعبرة.

أبرز موضوعات سورة التوبة التي نزلت في سياق معين

تتعدد الموضوعات التي نزلت سورة التوبة لتتناولها، وتُبيّن أحكامها وأسبابها الشرعية والتاريخية:

الأسلوب والمقصد في سورة التوبة

تتميّز سورة التوبة بلهجة صارمة وواقعية، فجاءت لتعالج قضايا خطيرة في البنية الداخلية للمجتمع الإسلامي، وتضع حدًا للنفاق، وتكشف عن عورات المنافقين، وتُحدد القواعد النهائية للعلاقات مع غير المسلمين، بما فيها العلاقات الدبلوماسية والعسكرية. كما تُعد من أكثر السور التي تضمّنت أوصافًا دقيقة لحال القلوب والعقائد.

كما أن السورة تمثل مرحلة انتقالية في بناء الدولة الإسلامية، حيث انتقلت من حالة الهدنة والمواثيق مع المشركين إلى حالة إعلان الدين الكامل، واستكمال أركان الدولة القوية القائمة على العدل والعقيدة الواضحة، والدعوة إلى الله من موقف القوة والثبات.

المصادر:

1. الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن.

2. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم.